تِلْكَ الأُصْبُعُ أَحَبُّ إِلَيَّ من مائة ألف سيف شهير، وشاب طَرِير
﷽
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.. أما بعد:
فهذا مقال مختصر كتبته تنبيهًا للمجاهدين والمرابطين ولكل مسلم غيور على هذا الدين، أُنبِّه فيه على أمر من أهم عوامل النصر على الأعداء، بل هو من أُسُسِه وأعظم مقوِّماته، وكانت كتابته تلبية لطلب كريم من أخ يريد نفع إخوانه المجاهدين والسلوك بهم إلى صراط مستقيم.
وهذا الأمر هو ﴿الدعاء﴾ الدعاء أيها المجاهدون، الدعاء أيها الحريصون على نصرة الإسلام وإعزاز أهله.
إن الناظر في سيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،وفي سيرة من جاء بعدهم من أئمة الإسلام الذين أعز الله بهم هذا الدين، والذين جاهدوا الكفار والمشركين، ليرى أن من أكبر الأمور التي كانوا يُعَوِّلون عليها في قتالهم للكافرين وفي أثناء منازلتهم للمشركين هو الدعاء واللجوء إلى الله واستنزال النصر من عنده.
فانظر إلى ما ذكره الله تعالى عن الملك الصالح والمجاهد العالم “طالوت” وأصحابه الذين كانوا يقاتلون معه، ومن بَيْنِهِم نبي الله داود عليه السلام: ﴿﴿وَلَمّا بَرَزوا لِجالوتَ وَجُنودِهِ قالوا رَبَّنا أَفرِغ عَلَينا صَبرًا وَثَبِّت أَقدامَنا وَانصُرنا عَلَى القَومِ الكافِرينَفَهَزَموهُم بِإِذنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوودُ جالوتَ وَآتاهُ اللَّهُ المُلكَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ﴾ [البقرة:250-251]، فأنزل الله عليهم النصر وهزم أعداءهم رغم قوتهم وكثرة أعدادهم.
▪ وهكذا قال الله عن نبينا محمد ﷺ وعن أصحابه لما رأوا أعداد المشركين يوم بدر ﴿إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفينَ﴾ [الأنفال:9].
روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه (1763) عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ ؓ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ ﭬ: ﴿إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفينَ﴾ [الأنفال:9] فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ».
▪ وفي سنن أبي داود رحمه الله (2632) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍؓ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا غَزَا قَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ».
▪ وفي مصنف ابن أبي شيبة ومسند الإمام أحمد رحمهما الله عَنْ صُهَيْبٍ ؓ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ أَيَّامَ حُنَيْنٍ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِشَيْءٍ، لَمْ نَكُنْ نَرَاهُ يَفْعَلُهُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَرَاكَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ, فَمَا هَذَا الَّذِي تُحَرِّكُ شَفَتَيْكَ؟ قَالَ: «إِنَّ نَبِيًّا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَعْجَبَتْهُ كَثْرَةُ أُمَّتِهِ، فَقَالَ: لَنْ يَرُومَ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ – وفي رواية: «مَنْ يُكَافِئُ هَؤُلَاءِ، أَوْ مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ»- فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَنْ خَيِّرْ أُمَّتَكَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ نُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَسْتَبِيحَهُمْ، أَو الْجُوعَ، وَإِمَّا أَنْ أُرْسِلَ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، فَشَاوَرَهُمْ، فَقَالُوا: أَمَّا الْعَدُوُّ، فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَأَمَّا الْجُوعُ فَلَا صَبْرَ لَنَا عَلَيْهِ، وَلَكِنِ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ سَبْعُونَ أَلْفًا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَأَنَا أَقُولُ الْآنَ، حَيْثُ رَأَى كَثْرَتَهُمْ،: اللهُمَّ بِكَ أُحَاوِلُ، وَبِكَ أُصَاوِلُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ ولا حول ولا قوة إلا بالله».
▪ وفي الصحيحين عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ؓ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا، انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ»، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ».
فهذا شأن نبينا ﷺ في غزواته وقتاله للمشركين، كثرة اللجوء إلى الله والتضرع بين يديه، مع أنه المؤيد من الله الموعود بالنصر والتمكين.
▪ بل بَلَغَ من شأنه ﷺ أنه يُؤخِّر الغزو حتى يصلي المسلمون صلاة الفريضة ويدعون فيها، ثم يغزو؛ لما يعلم من أثر الدعاء، وأنه عامل كبير في النصر؛ فقد روى أبو داود (2655) والترمذي (1613) رحمهما الله عن النُّعْمَانِ ابْنِ مُقَرِّنٍ ؓ، قَالَ: «شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ»، وأصله في البخاري (3160)، قال النعمان: شَهِدْتُ القِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ «إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ، وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري:
(فيظهر أن فائدة التأخير؛ لكون أوقات الصلاة مظنة إجابة الدعاء، وهبوب الريح قد وقع النصر به في الأحزاب، فصار مظنة لذلك، والله أعلم. وقد أخرج الترمذي حديث النعمان بن مقرن من وجه آخر عنه، لكن فيه انقطاع ولفظه يوافق ما قلته، قال: «غزوت مع النبي ﷺ فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس قاتل، فإذا دخل وقت العصر أمسك حتى يصليها، ثم يقاتل»، وكان يقال: عند ذلك تهيج رياح النصر، ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم).
▪ فهذا شأن نبينا ﷺ، فلا تغفل -أيها المجاهد- ولا تغفل -أيها المسلم- الذي تريد نصر الإسلام، وإعزاز المسلمين عن هذا السلاح العظيم، الذي به يكون النصر والتمكين، حتى ولو كان هذا الداعي ضعيفًا مستضعفًا؛ فإن الله يؤيده، ومصداق ذلك ما رواه النسائي رحمه الله (3178) عن سعد بن أبي وقاص ؓ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ».
▪ لا سيما إذا التقى الصَّفَّان وتقابل الفريقان فهناك تُسمَع الأصوات، وتُجاب الدعوات، فقد روى أبو داود رحمه الله (2540) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ؓ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «ثِنْتَانِ لَا تُرَدَّانِ، أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَعِنْدَ الْبَأْسِ حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا».وهو حديث اختلف في رفعه ووقفه.
▪ وهكذا لو تأمل المسلم في سيرة الصالحين والأئمة المجاهدين لرأى شيئًا عجبًا من شدة تعويلهم على الدعاء، وانتباهم له في قتالهم، وسأذكر في هذا المقال شيئًا من ذلك، مما تتحفز به الهمم، وتنشط به العزائم؛ للتأسي بهم، والسير على طريقهم من استنزال النصر بهذا السلاح العظيم.
▪ فمن ذلك ما أخرجه الحاكم (5478) والطبراني في المعجم الكبير (4/21) عن حبيب بن مسلمة الفهري -وكان مجاب الدعوة- أنه أُمِّرَ على جيش فَدَرَّب الدروب، فلما لقي العدو؛ قال للناس: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويُؤَمِّن سائرهم؛ إلا أجابهم الله»، ثم إنه حمد الله، وأثنى عليه، فقال: اللهم احقن دماءنا، واجعل أجورنا أجور الشهداء. فبينا هم على ذلك إذ نزل الهِنْبَاط، وهو أمير جيش العدو؛ فدخل على حبيبٍ سُرَادِقَه، وأسلم نفسه إليه.
وهذه القصة من طريق عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف، والراوي عنه عبد الله بن يزيد المقرئ وهو أحد العبادلة الذين يصحح روايتهم عن ابن لهيعة جماعة من الأئمة.
▪ ومن ذلك ما ذكره الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء (6/119) في ترجمة الإمام الرباني القدوة محمد بن واسع الأزدي، فقال: قال الأصمعي: لما صافَّ قتيبة بن مسلم التُّرْك، وهَالَهُ أمرهم، سأل عن محمد بن واسع؟
فقيل: هو ذاك في الميمنة، جامح على قوسه، يُبَصْبِصُ بأصبعه نحو السماء.. قال:
“تلك الأصبع أحب إلي من
مائة ألف سيف شهير، وشاب طرير”.
▪ ومن ذلك ما ذكره الطبري في تاريخه (7/119) أن أسد بن عبد الله لما غزا الترك قال لأصحابه: إنه إن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله؛ فإنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله، واسجدوا لربكم، وأخلصوا له الدعاء؛ ففعلوا، ثم رفعوا رءوسهم، وهم لا يشكُّون في الفتح.
▪ ومن ذلك ما ذكره ابن الأثيررحمه الله في الكامل في التاريخ (8/223)، وكذلك الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء (18/315) أن السلطان ألب أرسلان لما لقي النصارى، وكانوا مائتي ألف، وكان المسلمون خمسة عشر ألفًا، فعرض السلطان على زعيم النصارى أرمانوس الهدنة فأبى، وقال: لا هدنة إلا ببذل الري.
فانزعج السلطان، فقال له إمَامُهُ وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على الأديان، فأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح، فَالْقَهُم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة، فصلى به، وبكى السلطان، وبكى الناس، ودعا، وأمنوا، وقال: من أراد أن ينصرف فلينصرف، فما ثَمَّ سلطان يأمر ولا ينهى، ورمى القوس، وسل السيف، وعقد بيده ذَنَب فرسه، وفعل الجُنْد كذلك، ولبس البياض، وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.
ثم حمل، فلما قارب العدو، ترجل، وعفر وجهه في التراب، وأكثر التضرع والدعاء، ثم ركب، فحمل وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتلوا في الروم كيف شاؤوا، ونزل النصر، وتطايرت الرؤوس، وقتل منهم ما لا يحصى حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر ملك الروم، وأحضر بين يدي السلطان، فضربه بالمقرعة، وقال: ألم أسألك الهدنة؟
قال: لا توبخ، وافعل ما تريد. قال: ما كنت تفعل لو أسرتني؟ قال: أفعل القبيح. قال: فما تظن بي؟
قال: تقتلني أو تشهرني في بلادك، والثالثة بعيدة، أن تعفو، وتأخذ الأموال.
قال: ما عزمت على غير هذه …..
▪ وتأمل ما ذكره ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص ٢٢٨) عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: ولقد أخبرني حاجب من الحُجَّاب الشاميين أمير من أمرائهم، ذو دين متين، وصدق لهجة، معروف في الدولة، قال: قال لي الشيخ -يعني شيخ الإسلام ابن تيمية- يوم اللقاء، ونحن بمرج الصفر، وقد تراءى الجمعان: “يا فلان! أوقفني موقف الموت”، قال: فسُقْتُه إلى مقابلة العدو، وهم مُتَحَدِّرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم، ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة؛ فدونك وما تريد.
قال: فرفع طَرْفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلاً، ثم انبعث، وأقدم على القتال، وأما أنا فخيل إلي أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة.
قال: ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار إلى جبل صغير، عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين تلك الساعة، وكان آخر النهار.
قال: وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضًا على القتال، وتخويفًا للناس من الفرار.
فقلت: يا سيدي! لك البشارة بالنصر؛ فإنه قد فتح الله ونصر، وها هم التتار محصورون بهذا السفح، وفي غد إن شاء الله تعالى يؤخذون عن آخرهم.
قال: فحمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ودعا لي في ذلك الموطن دعاءً وجدت بركته في ذلك الوقت وبعده.
هذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي وصفه تلميذه ابن القيم في كتابه الوابل الصيب بقوله:
(وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا).
انظر كيف كان صنيعه إذا لاقى العدو، كان يكون داعيًا متضرعًا مبتهلاً بين يدي الله، وهذا هو سرُّ القوة والثبات، والنصر على الأعداء.
▪ فيا أيها المجاهدون! احرصوا على دعاء الله واللجوء إليه، واعلموا أن الله معكم وقريب منكم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، لا يمنع أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه من التقصير؛ فقد استجاب الله لإبليس -وهو شر الخلق- حين قال: ﴿قالَ أَنظِرني إِلى يَومِ يُبعَثونَقالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرينَ﴾ [الأعراف:14-15].
▪ فقاتلوا الرافضة واستعينوا بالله وأكثروا من دعائه؛ فإنكم مظلومون، والرافضة هم الظالمون المعتدون، وتعلمون ما قال نبينا ﷺ لمعاذ بن جبل: «واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».
وفي حديث أبي هريرة ؓ عند أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي ﷺ قال: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين».
والحمد لله رب العالمين.
كتبه/ أبو عبد الرحمن رشاد بن أحمد الضالعي
دار الحديث السلفية للعلوم الشرعية بالضالع – 18 صفر 1441هـ