• التبيين لما شنَّع به علينا بعض الحزبيين

    :العنوان
  • مباحث

    :التصنيف
  • 7 November، 2022

    :تاريخ النشر
  • 51

    :عدد الزيارات

التبيين لما شنَّع به علينا بعض الحزبيين

التبيين لما شنَّع به علينا بعض الحزبيين

(الجزء الأول)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد:

فقد انتقدْنا على بعض الحزبيين أفعالا يقومون بها خالفوا فيها سير أهل السنة والجماعة, ونصحناهم بتركها والرجوع إلى الحق فيها, فشنَّعوا علينا في ذلك ورمونا بمخالفة طريق أهل العلم, وأن هذه مسائل انفردنا بها دون العلماء, فأردت في هذه الرسالة أن أبيِّن بعض هذه المسائل, حتى يعلم الجميع كلام العلماء فيها, ومن الذي وافق العلماء فيها ومن الذي خالفهم.

فأقول مستعينا بالله, مستمدا منه التوفيق للصواب.

📜 * المسألة الأولى: حكم المسابقة وأخذ الجوائز في حفظ القرآن والحديث والمسائل العلمية:

هذه المسألة فيها قولان للعلماء:

☄️ القول الأول: لا يجوز ذلك, وهذا مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم

واستدلوا بما أخرجه أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ فِي حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ». قوله: «لا سَبَقَ»: هو بفتحتين: أي الجائزة أو ما يُجعل من المال على المسابقة، والمعنى: لا يحلُّ أخذ المال بالمسابقة إلا في الإبل والخيل والسهام, فـ«الخف»، المراد به الإبل, «والنصل» المراد به السهام, «والحافر» المراد به الفرس, قالوا: فحرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الرهان إلا في مسابقات الرماية والخيول والإبل، لأن في ذلك تشجيعاً على الجهاد وتدريباً عليه، فيحصل بذلك منفعة عظيمة ونصرة للإسلام, قالوا فهذا الحديث يدل على عدم جواز السَّبَق إلا في هذه الثلاث لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك بأقوى صيغ الحصر وهو الاستثناء بعد النفي.

أيضا مما استدلوا به قالوا: إنه لا يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك مع أصحابه ولا يُعلم أن الصحابة ي فعلوه فيما بينهم, ففعلُ ذلك توسُّعٌ لا دليل عليه.

وأيضا قالوا: إن أخْذ الرهان في المسابقات الأصل فيه أنه محرَّم لأنه من القمار المنهي عنه وإنما استُثنيت هذه الثلاث في الحديث: (الخف والنصل والحافر) لما فيها من المصلحة الراجحة على مفسدة القمار, فتبقى هذه الثلاث مستثناة بالدليل الخاص, وما عداها يبقى على الأصل وهو النهي عن القمار, قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (10/98): (إنما جاز في هذه الثلاثة لما فيها من المصلحة العامة من الجهاد في سبيل الله؛ لأن الإبل يَحمِل عليها المجاهدون الأمتعة، والخيل فيها الكَرُّ والفَرُّ، والسهام فيها الرمي….. فإن قال قائل: هذا جارٍ على خلاف القياس؛ لأنه ميسر إذ أن أحدهما غانم أو غارم.
فالجواب: … أن هذه المسألة مستثناة، وأن فيها مصلحة تربو على مفسدتها، والمصلحة هي التمرُّن على آلات القتال، وهذه مصلحة كبيرة وعظيمة تنغمر فيها المفسدة التي تحصل بالميسر، والشرع كله مصالح، إما غالبة وإما متمحِّضة).

☄️ القول الثاني: يجوز ذلك, وهو قول أصحاب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.

واستدل له شيخ الإسلام بما أخرجه أحمد والبخاري في “خلق أفعال العباد” والترمذي والحاكم وغيرهم من طرق عن مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الفَزَارِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فِي قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ﴾ قَالَ: غُلِبَتْ وَغَلَبَتْ، كَانَ المُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ الله ﷺ فقَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ»، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا، فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا، فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «أَلَا جَعَلْتَهُ إِلَى دُونَ» – قَالَ: أُرَاهُ العَشْرَ، قَالَ سَعِيدٌ: وَالْبِضْعُ مَا دُونَ العَشْرِ – قَالَ: ثُمَّ ظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدُ. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿يَفْرَحُ الْـمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾ قَالَ سُفْيَانُ: «سَمِعْتُ أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ». وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الشيخين.

قالوا: فراهَنَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه كفارَ قريش على أن يعطيهم كذا وكذا, وقد جاء بيانه في روايات أخرى أنه يعطيهم بعض الإبل, قالوا: وهذه مراهنة في مسألة من مسائل العلم, فإن أبا بكر قال ذلك وجزم به اعتمادا على ما في الآية من الخبر أن الروم سيغلبون الفرس في بضع سنين, والبضع ما دون العشرة, إذن سيغلب الروم الفرس قبل أن تمضي عشر سنين اعتمادا على الآية, وهذه مسألة علمية.

أيضا مما استدلوا به قالوا: إن الإسلام كما انتصر بالسلاح والجهاد في سبيل الله وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم أخذَ الرهان في المسابقة بما يعين على الجهاد, كذلك الإسلام انتصر بالعلم الشرعي والعلم الشرعي هو من الجهاد فيجوز أخذ الرهان في المسابقة فيه.

هذا كلام العلماء في هذه المسألة وقد اختار الإمام الألباني القول الأول, واختار الإمام ابن باز وابن عثيمين القول الثاني, رحمهم الله أجمعين.

انظر لهذه المسألة بتوسُّع كتابي ”الإيضاح والتبيين لبعض صور القمار والميسر في المسابقات والمراهنات الفاشية بين المسلمين“.

💫 تنبيه :

مسألة توزيع الجوائز على المتفوقين ممن يحفظون القرآن أو يدرسون العلم الشرعي, أو تكريم جميع الدارسين بالجوائز, هذه مسألة عصرية ليس في كلام شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله تعرُّض لها, وإنها كلامهم في أناس يتذاكرون العلم على رِهان, ومن أصاب منهم يعطيه الآخر شيئا, فهذا الذي أجازوه قياسا على الثلاث الواردة في الحديث, فلا يصح الاحتجاج بكلام شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله على هذه المسألة العصرية لما بينهما من الفرق.

وأما هذه المسألة العصرية وهي توزيع الجوائز على المتفوقين ممن يحفظون القرآن أو يدرسون العلم الشرعي, أو تكريم جميع الدارسين بالجوائز, فهذه أجازها بعض أهل العلم كالشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله, ومنع منها آخرون كالشيخ الألباني والشنقيطي وغيرهما.

قال الشيخ الألباني رحمه الله كما في كتاب ”جامع تراث العلامة الألباني في الفقه“ (14/51-52): (إن هذه الهدايا التي تُقدَّم للمتسابقين سواء في حفظ القرآن أو في الإجابة عن بعض المسائل العلمية هذا ليس سبيلا مشروعا, وليس هذا من السبَق المذكور في الحديث ….. (إلى أن قال) نريد نرجع إلى المسابقات الدينية, هذا ما يجوز؛ لأن هذا يُنشئ جيلا جديدا لا يحفظ القرآن إلا طمعا في المال, ولا يحفظ المسائل العلمية إلا طمعا في المال, ما يصلي بالناس إماما إلا مقابل وظيفة, لا يُؤذِّن لله إلا مقابل معاش وهكذا, وهنا ربنا عز وجل جعل قاعدة يجب على المسلمين أن يتشبثوا بها دائما وأبدا في كل منطلقهم في حياتهم الدينية, وهي قوله تعالى: +فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا_). انتهى كلامه رحمه الله.

وللشنقيطي كلام طويل ومفيد في شرح ”زاد المستقنع“ (243/23) أسوق هنا بعضه, فكان مما قال: (السنة واضحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة المسابقة: ((لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر))، فهذا نص واضح ليس فيه أي إشكال، فنؤمن بما جاء ونلتزم ونسلم به، فلا يجوز وضع الجوائز إلا على هذه الثلاثة، والسبب: أن الجوائز تحدث الشحناء والبغضاء، وتحدث نوعاً من التنافس، وما تنافس قوم غالباً إلا حرص أحدهم أن يكون هو الأسبق……
وقد يقول قائل: المصلحة أن الطلاب يتنافسون.
فنقول: نعم.
يتنافسون ويتباغضون ويتحاسدون بسبب هذا التنافس، ولذلك رأينا بأعيننا أن الطلاب إذا وضع لهم الـجُعل على مسابقة حقد بعضهم على بعض، حتى لقد رأيت بعيني من بعض الزملاء أنهم كانوا إذا جرت بينهم مسابقة في الحفظ تمنى بعضهم أن يخطئ أخوه في القرآن وفي كتاب الله عز وجل، ناهيك عن أنه إذا كان صغيراً وأعطي الجعل على حفظ كتاب الله عز وجل ينشأ متعلق القلب بهذه الدنيا، وربما يمر عليه العام كاملاً ولا يراجع القرآن إلا إذا أعطي مسجداً يقوم فيه للتراويح، أو طُلب للمسابقة، أما غير ذلك فلا.
وكتاب الله والأمور العلمية ينبغي صيانتها من الدنيا ما أمكن، وينبغي حفظها والمحافظة عليها، ومن صان العلم صانه الله في الدنيا والآخرة، ومن حفظ العلم لآخرته حفظه الله في دنياه وآخرته، وبارك له في هذا العلم، وبارك له فيما يجد.
ولذلك تجد من يتعلق بالحوافز والجوائز تدخل عليه من الفتن الشيء الكثير، ولا يبارك له في علمه، ولا ينتفع؛ حتى إن نفسه ربما ضعفت عن الاحتساب إذا لم يوجد الثواب، وتجده متقاعساً في الأمور التي يكون فيها نفع للعامة، ولا يبارك له في علمه كالشخص الذي يصون علمه عن أن ينافس به أحداً……
إذاً: هذه المسابقات لا تتفق مع مقاصد الشريعة، ولا تتفق مع معالي الإخلاص والتوحيد التي من أجلها قامت هذه الشريعة؛ لأنها تفسد النيات، وتحدث الدخن بين طلاب العلم مع بعضهم ومع معلميهم، فينبغي صيانة العلم عن مثل هذا…….

ولنا في سفلنا الصالح أسوة، فقد قادوا الأمة والعالم من المحيط إلى المحيط وكانت مدارس المسلمين منتشرة في كل صقع، وما كانوا يعرفون مسابقة، ولا جوائز؛ بل كانوا يثنون الركب في حلق العلم، محتسبين الأجر عند الله سبحانه وتعالى، مبتغين الثواب منه سبحانه وتعالى، فبارك الله لهم، وبارك في علمهم، وبقي علمهم إلى اليوم خالداً، حتى إنك تجد كتاب العالِـم من علماء المسلمين محفوظاً في دول الكفر على أنه تراث، فسبحان الله! لأن اليد خَطَّتْ لله، والعلم دُوِّنَ لله، فسخَّر الله عدوه أن يحفظه……
فينبغي على أهل العلم صيانة العلم، وينبغي أن يُعوَّد طالب العلم من الصغر على طلب العلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله عز وجل، حتى يبارك له في علمه، فإذا فعلنا ذلك وجدنا الخير والبركة، ووجدنا من يستطيع أن يخرج من بيته من الصباح ولا يرجع إلى بيته إلا في الليل، وهو عاكف في بيت من بيوت الله يعلم أبناء المسلمين، أما إذا وضعت على ذلك الحوافز والجوائز فربما تعلق قلبه بها، والقلب إذا تعلق بشيء فتن به، نسأل الله السلامة والعافية). انتهى كلامه.

📜 فهذا بعض كلام أهل العلم في إنكارها وبيان ما فيها من المفاسد, التي حاصلها:

1- أنها تفسد النيات وتجعل الإنسان يعمل الطاعة لإرادة الدنيا إلا ما رحم الله, وهذا من أعظم المفاسد أن يُجعل القرآن والعلم الشرعي سبيلا إلى نيل الدنيا, والدنيا هي المقصودة به.

2- أنها تجعل طالب العلم متعلقا بالدنيا, بعيدا عن احتساب الأجر, وإذا لم توجد الدنيا فيكون كسلا متساهلا لا ينشط لطلب العلم أو مراجعة القرآن.

3- أنها تؤدي إلى سعي كل واحد من المتسابقين أن يُظهر نفسه أنه هو الأعلم وهو الأحفظ لأجل أن ينال الجائزة, وهذا خلاف المقصود من العلم, فطالب العلم لا يتظاهر بعلمه, ولا يريد الشهرة به.

4- أنها تؤدي إلى التباغض والتحاسد والاختلاف بين طلاب العلم, وربما تهاجروا ودخلت بينهم الشحناء بسبب أن بعضهم حصل على جائزة وبعضهم لم يحصل.

5- بالإضافة إلى أنها لا تُعلَم في بلادنا اليمنية إلا عن أهل البدع والتحزبات, ولا يستطيع أحد أن يُثبت أنه قام بها أو فعلها بعض علماء أهل السنة في كل الفترة السابقة, ولذا رأينا من كانوا يوزعون الجوائز أنها لم تحصل البركة في طلابهم ولا في معلوماتهم, بخلاف أهل السنة الذين ربَّوا طلابهم على الإخلاص واحتساب الأجر فقد بارك الله في دعوتهم وصارت ثمرتها ظاهرة, وإنما صار إليها أهل التحزبات في بلادنا حين رأوا الناس نفروا عنهم وتركوا حضور مجالسهم فأرادوا بذلك أن يستميلوا الناس إلى حضور مجالسهم.

📝 فائدة مهمة :

إذا كان الشيء جائزا في نفسه ولكنه صار شعارا لأهل البدع فإنه يؤمر المسلم بتركه حتى لا يكون مشابها لأهل البدع, وقد بيَّن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدة مواضع من كتابه اقتضاء الصراط المستقيم.

  • قلتُ: ويدل على هذا ما أخرجه أحمد (5114) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)).

فهذا الحديث يدل على النهي عن مشابهة المبطلين فيما هو من خصائصهم, لئلا يُظن بالإنسان أنه منهم, ومن المعلوم أن التشبه معناه فعلُ ما هو من خصائص المتَشبَّه به ولو لم يقصد ذلك المتشبِّه.

  • ومما يبين هذا ما أخرجه مسلم (1064) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ، يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ، سِيمَاهُمْ التَّحَالُقُ. وهؤلاء هم الخوارج.

وقد كان بعض السلف يكره كثرة حلق شعر الرأس حتى لا يشابه الخوارج, مع أنه في الأصل مباح.

  • ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه ”اقتضاء الصراط المستقيم“ (1/397) في مسألة: هل المستحب تسطيح ظاهر القبر أو تسنيمه فقال :: فإن مذهب الشافعي: أن الأفضل تسطيحها, ومذهب أحمد وأبي حنيفة: أن الأفضل تسنيمها, ثم قال طائفة من أصحاب الشافعي: بل ينبغي تسنيمها في هذه الأوقات؛ لأن الرافضة تُسطِّحها ففي تسطيحها تشبه بهم فيما هو شعار لهم. انتهى.

فانظر كيف كره علماء الشافعية رحمهم الله تسطيح القبر لأنه تشبَّهٌ بالرافضة فيما هو شعار لهم, مع أنهم يقولون في أصل المسألة: إن تسطيح القبر هو الأفضل.

  • بل حتى في ما هو من خصائص الفسَّاق والعصاة يؤمر الملتزم باجتناب ذلك وإن كان أصله مباحا, ومن ذلك ما قاله الحافظ ابن جرير الطبري رحمه الله وهو يتكلم عن لبس الثوب الأحمر: الَّذِي أَرَاهُ جَوَازُ لُبْسِ الثِّيَابِ الْـمُصَبَّغَةِ بِكُلِّ لَوْنٍ إِلَّا أَنِّي لَا أُحِبُّ لُبْسَ مَا كَانَ مُشْبَعًا بِالْحُمْرَةِ وَلَا لُبْسَ الْأَحْمَرِ مُطْلَقًا ظَاهِرًا فَوْقَ الثِّيَابِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ الْـمُرُوءَةِ فِي زَمَانِنَا. انتهى من فتح الباري لابن حجر (5848).

فهذا الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله بعد أن اختار جواز لبس الأحمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الأحمر كما في الصحيحين عن البراء بن عازب وأبي جحيفة رضي الله عنهما، ذكر أنه يَكره لبسه لأنه في زمانهم ليس من لباس أهل المروءة.

وأنقل هاهنا كلاما نفيسا للإمام القرطبي رحمه الله في كتابه ”المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم“ (6/127-129) قال رحمه الله وهو يشرح حديث البراء بن عازب ا ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حُلَّة حمراء)): وفيه دليل على جواز لباس الأحمر، وقد أخطا من كره لباسه مطلقًا، غير أنه قد يختص بلباسه في بعض الأوقات أهل الفسق والدعارة والمجون، فحينئذ يُكره لباسه؛ لأنَّه إذ ذاك تَشبُّه بهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من تشبَّه بقومٍ فهو منهم))، لكن ليس هذا مخصوصًا بالحُمرة، بل هو جارٍ في كل الألوان والأحوال، حتى لو اختص أهل الظلم والفسق بشيء مما أصلُه سُنَّة كالخاتم والخضاب والفَرْق (يعني فَرْق الشعر) لكان ينبغي لأهل الدين ألا يتشبهوا بهم؛ مخافة الوقوع فيما كرهه الشرع من التشبه بأهل الفسق، ولأنه قد يَظن به من لا يعرفه أنه منهم، فيعتقد ذلك فيه، وينسبه إليهم ، فيظن به ظن السوء، فيأثم الظان بذلك والمظنون بسبب المعونة عليه. انتهى كلامه رحمه الله.

وهو كلام نفيس ومفيد جدا, فبَعد أن جزم بجواز لبس الأحمر وخطَّأ من كرهه مطلقا, ذكر أنه قد يُكره لباسه إذا اختص به أهل الفسق والدعارة والمجنون, ثم قرَّر هذا الأصل العظيم وهو اجتناب ما كان من خصائص أهل الفسق ولو كان في الأصل مباحا بل لو كان في الأصل سُنِّة, لأجل عدم التشبُّه بهم.

فكيف بما صار شعارا لأهل البدع فإنه يُجتنب من باب أولى وإن كان أصله مباحا.

ولذا فنحن في مركزنا وبين إخواننا ننهى عن لبس العمائم السوداء لأنها صارت شعارا لطائفتين ضالتين وهما: الروافض والخوارج, مع أنها في الأصل مباحة وقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم العمامة السوداء كما في صحيح مسلم, وهكذا ننهى عن إطالة شعر الرأس لأنه صار شعارا للخوارج, كما كره سلفنا كثرة حلق شعر الرأس حين كان شعارا للخوارج في ذلك الزمن, مع أن الكل أصله مباح.
فافهم هذا أيها السلفي فإنه يعصمك بإذن الله من كثير من الخطأ والخلل.

وعلى هذا فإنكارُ السلفي لأمور صارت شعارا لأهل البدع والتحزبات, هذا سائغ, وعلى طريقة أهل العلم سائر, وإن كانت هذه الأمور في الأصل مباحة.

فإنكارُنا لتوزيع الجوائز, هو إنكارٌ في محلِّه لأن هذه الأمور صارت عندنا في اليمن شعارا لأهل التحزبات من الإخوان المسلمين وأصحاب الجمعيات, وإن كنا لا نقول بتحريمها في أصلها.

وبعد هذا العرض لهذه المسألة فلو أني قلتُ -فرضا- بتحريم هذه الجوائز وعدم جوازها –مع أني لا أقول بذلك- هل أنا مخالف لطريقة أهل العلم أم أنا موافق لجمهورهم وفيهم مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله.

وهكذا إنكارنا للسؤال والتَّسَوُّل باسم الدعوة بتلك الأساليب التي اعتادها أصحاب الجمعيات والإخوان المسلمون هذا مخالف لطريقة أهل السنة, بل ولأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في ذم المسألة والنهي عنها, والتي قد كتب فيها الإمام الوادعي : كتابا للتحذير من مثل هذه المسالك, ولا ينافي هذا ما جاء من الأدلة في الشفاعة للمحتاج, وحث القادرين على مساعدته, فالذي جاءت عنه الأحاديث بالشفاعة للمحتاج هو الذي نهى عن المسألة وذمَّها.
فهل سيفهم هذا الجاهل الذي إذا وجد فتوى لبعض العلماء في جواز هذا الشيء قام يشنِّع بها علينا وكأنما خالفْنا نصا من القرآن أو حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولكنه الجهل, فمن جهل شيئا عاداه, ولو سكت الجاهل لقلَّ الخلاف, نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.

كتبه أبو عبد الرحمن رشاد بن أحمد الضالعي في دار الحديث السلفية للعلوم الشرعية بالضالع

صبيحة السبت ١١ ربيع الآخر ١٤٤٤